السنوات الضائعة

 السنوات الضائعة

Deneyimsel Tasarım Öğretisi
 

بوجهٍ مضيء كالقمر وابتسامةٍ واسعة، ركض جاد نحو والده قائلاً بحماس: "أبي! هل يمكنك تركيب هذا؟" ثم وضع لعبته الصغيرة في حضن أبيه. نظر الأب إلى اللعبة ثم إلى ابنه، وأغمض عينيه ليأخذ نفسًا عميقًا، قائلاً في أعماقه: "يا له من شعور جميل! لسنوات لم أشعر بمثل هذه السعادة "

 

ركّب عماد القطعة المفقودة في اللعبة وأعادها لابنه، ولم ينسَ أن يطبع قبلة دافئة على وجنته الصغيرة. ثم احتسى رشفة من القهوة التي أعدّتها زوجته، وبدأ يراقب الطقس في الخارج... كانت السماء ملبدة بالغيوم، والمطر ينهمر بهدوء.

 

في تلك اللحظة، عاد بذاكرته إلى الوراء... إلى تلك السنوات الضائعة... إلى الأيام التي غرق فيها في عالم المواد المخدرة.

فقد كان ابنًا لعائلة ميسورة الحال، ومتفوّقا في دراسته. لكنه لم يتمكن من الالتحاق بالتخصص الذي كان يحلم به، فأصرّت عائلته على تسجيله في جامعة خاصة ليتابع في الاختصاص الذي كان يرغب فيه، كانت الجامعة في مدينة بعيدة عن أهله، مدينة ذات مناخ كئيب، حيث يهطل المطر دون توقف أحيانا، والسماء ملبدة بالغيوم معظم الوقت.

 

وفّرت له عائلته كل ما يحتاجه: منزل، سيارة، ومصروف شهري أشبه براتب ثابت. شعر براحة لم يعهدها من قبل، رويدا رويدا بدأ يتهاون في الذهاب إلى المحاضرات، مفضّلًا قضاء وقته مع أصدقائه الجدد، والانخراط في أجواء لم يختبرها من قبل. كيف لا وهو مولع بتجربة كل جديد.

 

وبمرور الوقت، لم تعد تلك اللقاءات تقتصر على التنزه، بل بدأ يدعو أصدقاءه لقضاء الليالي في منزله بعد سهراتهم الليلية. و بمرور الأيام ازداد استهلاكهم للمواد الممنوعة، وكذلك طلبه المستمر للمال من أهله، وما كانوا  ليسألوه عن السبب طبعا.

 

لم يكن عماد في البداية صاحب أي عادة سيئة، لكن الأجواء التي انغمس فيها جعلته يجرب كل ما يُعرض عليه. و كالمعتاد بدأ الأمر بسيجارة، ثم جرّب الكحول، ثم شيئًا فشيئًا أخذ يغوص في عالم أكثر ظلامًا. كان بعض أصدقائه يحضرون معهم مواد غريبة، يشجعونه على تجربتها. ظانّا في البداية أنها ستمنحه المتعة التي يحتاجها لتجاوز تلك الليالي الممطرة الكئيبة البعيدة عن الأهل والعائلة، ولم يكن ليدرك  تحوّل الأمر من مجرد تجربة إلى إدمان لا يستطيع الفكاك منه.

 

ومالبث منزله أن تحول إلى مكان يجتمع فيه من كان  يظنهم أصدقاء له، حيث يجلسون في غرفة خانقة، بإضاءة خافتة، غارقين في عوالمهم المشوشة. لم تكن هناك أحاديث مشتركة و لم تكن هناك لحظات سعيدة... كان مجرد فراغ قاتل. درجة أنه لم يكن ليتذكر من جاء ولا حتى من غادر حتى وإن حاول تذكر ذلك...

 

هكذا، انقضت أربع سنوات من حياته الجامعية... ولو سأله أحدهم ماذا فعل خلال تلك السنوات، لما كان لديه إجابة سوى: حفلات صاخبة، وغرفة مليئة بالضياع، وسنوات فارغة لا معنى لها. سنوات ضائعة لا أكثر، كما لو أنها مشاهد مبتورة من فيلم بلا حبكة... بلا أبطال... بلا معنى.

 

يخبرنا تصميم الخبرات عندما تريد تجنب أمرا ما عليك أن تدرك  الشيء الذي تتجنبه.

Deneyimsel Tasarım Öğretisi

فالإنسان عندما يعجز عن تجنب ما يؤذيه، يجد نفسه محروماً من جمال الحياة الحقيقي، غارقًا في هاوية لا قاع لها.

 

مرت أربع سنوات، لكن عماد ما زال في سنته الأولى، لم يجتز أي اختبار في تلك الفترة، مرضت والدته فجأة، وسرعان ما خطفها المرض القاسي من بين يديه. حاولت شقيقاته مرارًا التواصل معه، لكن دون جدوى. ليستيقظ ذات صباحٍ  برأس مثقل بالألم، وعلى وقع رسالة قاسية من شقيقته الكبرى، تخبره بما هو أشبه بالصاعقة: نعم فأمه قد رحلت!

 

هل يعقل ذلك؟ أمهماتت حقًا؟ هل كان في كابوس؟ متى سمع صوتها آخر مرة؟ متى تحدث معها؟ لم يستطع حتى أن يتذكرربما لأنه لم يسمع صوتها منذ فترة طويلة جدًا، لدرجة أن ذاكرته لفظت تلك التفاصيل. قفز من سريره، ارتدى ملابسه على عجل، وقرر الانطلاق فورًا فقط ربما عساه  يتمكن من رؤية وجهها لآخر مرة، قبل أن تُوارى الثرى. لكنه حين مد يده إلى جيبه، أدرك الحقيقة المُرّةلم يكن يملك حتى ثمن الرحلة.

 

لقد بدّد كل ما يُرسل إليه من مال شهري على إدمانه، حتى آخر قرش. ولعله بدأ لحظتها يستوعب إلى أين قادته اختياراته، شعر بقبضة حادة في قلبهكانت عائلته تمنحه كل شيء، لكنه بدلاً من استغلال تلك الفرص، كان يهدرها على طريقٍ لا عودة منه.

 

لم يرد طلب المال من والده، خاصة أن الأخير توقف عن إرسال أي مصروف إضافي منذ فترة، بسبب أوضاعه المالية الصعبة. حتى مكالماته لم يكن ليجيب عليها. و في لحظة يأس، فكر طويلًا، ثم قرر بيع هاتفه. اشترى بثمنه هاتفًا أرخص، واستغل ما تبقى من المال للوصول إلى مدينته.

 

لكن حين وصلكان الوقت قد فات. لقد دفنوها. لم يرَهالم يودعهاحتى أنه لم يطلب الغفران منهاحين رأته شقيقاته، انكسرن مرة أخرى، فـعماد نفسه بات كالجثة الهامدةجسد هزيل، وعظام بارزة، هالات داكنة تحت عينيه، ونظرات حمراء مثقلة بالسهر والندم.

 

كل من حوله بدا له كالغرباء. أراد أن يعانقهم، أن يشعر بدفئهم، لكنه لم يستطعكان يشعر أنه بعيد جدًا عنهم، وكأن سنواته الماضية أقامت بينه وبينهم جدارًا سميكًا. كيف سمح لنفسه أن يبتعد إلى هذا الحد؟ كيف نسيهم؟ كيف تلاشت ملامحهم من ذاكرته؟

 

لكن وسط كل ذلك الألم، أدرك فجأة شيئًا آخركل ما يريده الآن هو الجرعة التالية.

جسده بدأ يرتجف، شعره بتقلصات باردة تسري في عروقه، أنفاسه ثقلت. لم يستطع التحمل، ركض نحو شقيقته الكبرى، وتمسك بها بكل ضعفه وهمس بصوت مرتجف:

"ساعدونيلا أريد العودة إلى ذلك الطريق مجددًا نعم... لكني غير قادر"

نظرت إليه بحيرة، وسألته بصوت مرتجف: "ماذا تقصد؟"

"ذلك الشيء الذي سرق سنواتيلا أريد أن يسرق ما تبقى من حياتي!"

 

صُدمت شقيقاته، أما والده، فقد كان عاجزًا عن النهوض من صدمة كل ما حدث.

لكن عماد لم يكن في وعيه ليرى ردود أفعالهم، فقد انهار تمامًا، ووجد نفسه يفتح عينيه بعد ساعات على سرير  في المشفى.

 

من هناك بدأت رحلته الجديدةنُقل إلى مركز إعادة تأهيل خاص، ليخضع  بعدها لعلاج طويل نوعا ما شمل تمارين رياضية، و أنظمة غذائية، وبرامج سلوكية. لم يكن الأمر سهلًا بكل تأكيد، فقد استغرقت رحلة شفائه أشهرًا طويلة من الألم والصراعلكنه في النهاية انتصر.

 

لم يكتفِ بالتعافي، بل قطع علاقته بكل أصدقاء الماضي، وبدأ يعيد بناء حياته من جديد. عاد إلى جامعته، اجتاز امتحاناته، ثم وجد عملاً بنفسه. ولأول مرة ربما منذ سنوات، شعر أن الحياة تعطيه فرصة ثانية.

ومع مرور الوقت، تزوج، وأصبح أبًاواليوم وهو  ينظر إلى طفله بين يديه، يدرك كم هي  كريمة معه الحياة، ورغم كل شيء.

 

لم يكن يصدق ذلكفقد كان يظن يومًا أنه لا يستحق فرصة أخرى.

Deneyimsel Tasarım Öğretisi

 

أخذ زواجه يستقر  أكثر مع مرور الوقت. لم يعد يشعر بالضيق عندما يرى الطقس الماطر أو الغائم، بل صار يستمتع به مع فنجان قهوة وابتسامة طفللكن الشيء الذي كان يحزنه هو تلك السنوات الضائعة، التي لم يستطع أن يحافظ عليهاأجمل سنوات عمرهالسنوات التي حرم نفسه منها لأنه لم يحسن حمايتها، وبالتأكيد لم تكن نظرات والدته  لتفارقه على الإطلاق

 

الآن، انقلب كل شيء رأسًا على عقب. صار يعيش حياة هادئة وسعيدة. أصبح أكثر حساسية تجاه العادات السيئة، فلم يكتفِ بعدم التدخين، بل لم يكن يقبل حتى أن يجلس  في الأماكن التي يُدخَّن فيها، ولم يشترِ شيئًا من أماكن تبيع الكحول. لأنه أدرك أن الضرر الذي لحق به عندما لم يصن نفسه لم يكن يضاهيه أي شيء آخر. وفي المقابل،  ولم يجد لذة تضاهي تلك التي يشعر بها عندما حمى نفسه مما يؤذيه.

 

لم يكن الأمر مقتصرًا على ترك تلك المواد فقط، بل أصبح أكثر حرصًا في كل ما قد يؤدي إلى الإدمان. لم يكن السيجار في نظره مجرد سيجارة، ولا الكأس مجرد كأسبل كان أول حلقة في سلسلة تقوده إلى الهاوية.

 

وكلما رأى أثر اجتنابه لهذه الأمور على حياته، زاد إصراره على مواصلة هذا الطريق. لم يكن قد شعر بالسعادة يومًا لمجرد الجلوس على أريكة منزله كما يفعل الآن. يا لحسرة تلك السنوات الماضيةويا لنعمة هذا السلام الذي يعيشه اليوم

 

يقول علم تصميم الخبرات:

لتتجنب شيئا ما عليك ان تدرك ما تتجنبه

 


Yorumlar

  1. فالإنسان عندما يعجز عن تجنب ما يؤذيه، يجد نفسه محروماً من جمال الحياة الحقيقي، غارقًا في هاوية لا قاع لها.

    YanıtlaSil
  2. ممتازة جدا..

    YanıtlaSil
  3. عندما لا يستطيع المرء تجنب ذلك، فإنه يضيع الأوقات الأكثر إنتاجية في حياته...

    YanıtlaSil
  4. شكراً جزيلاً

    YanıtlaSil

Yorum Gönder

Düşünceleriniz bizim için çok kıymetli